بعض من أسرار لاداخ
تُعد مدينة ليه، عاصمة ولاية لاداخ، والمناطق المحيطة بها، أرض المناظر الطبيعية الحية والمشرقة بل، والأكثر من ذلك، أرض الثقافة النابضة الحياة، وهنا يأخذنا عاشقا السفر، انوراج ماليك وبريا جاناباثي، في رحلة لاستكشاف جوانب غير معروفة من ثقافة مدينة ليه وتقاليد سكانها المحليين.
كانت منطقة لاداخ الجبلية، المحاطة بسلسة جبال كاراكورام وسلسلة جبال الهيمالايا، ذات يوم، منطقة قاسية وغير مأهولة ولا يعبرها سوى قبائل البدو والترحال، وحتى يومنا هذا، تعتبر هذه الأرض الدراماتيكية واحدة من أقل المناطق في العالم من حيث الكثافة السكانية، إلا أنه ومنذ فتح المنطقة للزوار، في عام 1974، تجذب لاداخ، وتحديدًا ليه، المدينة الرئيسية في إقليم هذا الاتحاد، أعدادًا كبيرة من السياح (بين شهري مايو وسبتمبر)، الذين يُفتتنون بالمناظر الطبيعية الفريدة وخيارات المغامرة المثيرة والثقافة النابضة بالحياة، وذلك نظرًا لما تقدمه لهم لاداخ من تجارب متنوعة، بدءًا من استكشاف المناظر الطبيعية الجبلية السريالية المليئة بالعديد من الأديرة البوذية وليس انتهاءً بما تملكه المنطقة من ثقافة فريدة من نوعها، إلا أن السفر رفقة السكان المحليين يظل الأكثر ثراءً لأنهم يقدمون لمحة عن حياتهم كما يساعدون أيضًا على استكشاف جوانب المنطقة غير المعروفة، وفيما يلي نستعرض معكم بعض التجارب غير المألوفة في مدينة ليه.

المدينة القديمة
في أوائل القرن الخامس عشر، بنى حاكم مملكة لاداخ آنذاك، دراجبا بومدي، التحصينات الأولى في عاصمته ليه بالإضافة إلى قلعة تسيمو الصغيرة، وفي القرن السابع عشر، بنى الملك سينجي نامجيال قصر ليه الضخم المكون من تسعة طوابق أو المعروف باسم “قصر لاتشين بالكار”، وعلى الرغم من أن العائلة المالكة هجرت القصر في منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن هذا المبنى المثير للإعجاب يقف، حتى اليوم، محاطًا ببقايا حصن الجدار الطيني الذي يخترق المدينة متمايلًا في ارجاءها، وفي حين يُعد القصر من الأماكن التي يصعب تفويت زيارتها عند زيارة ليه، غالبًا ما يفوت على السياح زيارة المدينة القديمة التاريخية التي يُطلق عليها محليًا اسم “خريوج” في إشارة إلى منازل السكن والمساحات المجتمعية، وتعد التمشية التراثية أفضل ما يمكن أن يُقدم مدينة ليه القديمة، ويأخذنا سونام جياتسو، مدرس الاقتصاد السابق والمكرس حاليًا للحفاظ على تراث لاداخ الثقافي، في مسيرة مع السياح عبر أزقة المدينة القديمة، حيث يعود تاريخ مدينة ليه القديمة إلى القرن السابع عشر، وهي عبارة عن مُجمع يضم حوالي 200 دار سكني مبني من الطين والحجارة والأخشاب والمدينة محاطة بجدران طينية من عند قاعدة قصر ليه، وعلى الرغم من السنوات التي تعرضت فيها للاضمحلال، تُعد مدينة ليه القديمة واحدة من الأمثلة القليلة الباقية، والتي لازالت سليمة، للمجتمعات الحضارية التي سكنت التبت في جبال الهيمالايا. ولم يتم الحفاظ سوى على 40 منزلًا فقط من بين 180 منزلًا تراثيًا بالمدينة، وتضم المنازل التي تم الحفاظ عليها منزل اونبي (المنجم والعراف) ومنزل صوفي (التاجر) ومنزل هور ياركاندي، الذي ينتمي إلى أحفاد عائلة هاجرت إلى لاداخ من ياركاند الصينية منذ ما يزيد عن 100 عام، وقد فاز المشروع التجريبي، الخاص بالحفاظ على منزل أحد حرفي صناعة المعادن، بجائزة اليونسكو لأفضل ممارسات الحفظ والصيانة.

متحف آسيا الوسطى
يقع المتحف على مفترق طرق القوافل القادمة من آسيا الوسطى، وقد شُكلت لاداخ بفضل القوافل التجارية القادمة من المدن القديمة، مثل سمرقند وبخاري، في أوزباكستان الحالية، والتبت وأجزاء من الصين وأفغانستان نظرًا لأن العديد من هذه الطرق تتقارب وتتقاطع في ليه مما جعلها، بمرور فترة من الزمن، بوتقة ثقافية، وقد تم إنشاء متحف ليه في آسيا الوسطى احتفاءً بهذا الجانب المهم من تاريخ ليه وبغرض الحفاظ عليه، ويتكون هذا المتحف، الذي شُيد بدعم من وزارة الثقافة في الحكومة الهندية، من أربعة طوابق تقع في حدائق تساس سوما التي كانت ذات يوم ساحة لتخييم القوافل، وقد صُمم هذا المتحف على شكل الحصون اللاداخية التبتية وبُني باستخدام مواد البناء التقليدية التي تشتهر بها لاداخ وهي الحجارة والأخشاب والطين. ويضم المتحف بعض الآثار من القوافل التجارية وبعض إطارات النوافذ القديمة ومخازن الحبوب ومطبخ من المطابخ التي تشتهر بها لاداخ يضم مجموعة رائعة من الأوعية والأواني اللامعة التي يُمكن لك أن تطلب تناول الغداء بها، ويسجل المتحف دور ليه في التجارة عبر طريق الحرير ، كما يضم المتحف أقدم مسجد في منطقة ليه بالإضافة إلى شجرة مقدسة تعرف باسم “صاحب الداتون” ويُقال انها تبلغ من العمر 500 عام، ويُقال أيضًا أنه في سنة 1517، مر أحد الجورو السيخ، وهو الجورو ناناكجي، عبر ليه وزرع بها غصن مسواك الداتون (الذي يستخدم في تنظيف الاسنان) في مكان بالقرب من المتحف الحالي ونما هذا الغصن وتحول إلى شجرة يستظل بها افراد القوافل التجارية، ويُعرف هذا المكان بـ “جورودوارا سري داتون صاحب”.

حارة السجاد
غالبًا ما يغفل السائحون عن أحد أقدم حارات ليه، وهو شارع ناوشر الذي يضم عددًا كبيرًا من متاجر السجاد ولهذا سُمي الشارع بـ “حارة السجاد”، ويقول مصمم الأزياء المحلي، جيغمات نوربو، الذي يدير متجرًا للأزياء الراقية في لاداخ، أن هذا الشارع كان يضم بوابة إيرادات قديمة لجمع الضرائب وتحصيلها إلا أنها لم تعد موجودة الآن، ولكن لا يزال من الممكن زيارة كارافانسيراي البالغ من العمر 120 عامًا والذي يُعد آخر مبنى تراثي باقِ في هذا الشارع.ويقع منزل جيغمات بجوار هذا المبنى مباشرةً، بالقرب من ملعب بولو، ويضم متحفًا رائعًا للنسيج استغرق إقامته خمس سنوات، ويوثق هذا المتحف، الذي يضم أيضًا بعض العناصر من الطراز المعماري الخاص بلاداخ، تصميمات أزياء لاداخ المتألقة عن طريق لوحات عرض الموضات، ولا يُسمح بزيارة هذا المتحف إلا من خلال دعوات، شأنه في ذلك شأن الكثير من المطاعم الخاصة والمسارات والآثار المُنسقة.

تشيلينج – قرية الحرفيين صُناع المعادن
في تشيلينج، إحدى القرى التي تبعد حوالي ساعة عن مدينة ليه، صنع الحرفيون المتخصصون في المعادن الآلات الموسيقية والتماثيل والاواني المنزلية على مدار عدة قرون، حيث قام الملك ديلدان مامجيال، بدعوة خمسة من صناع المعادن النيواريين المهرة من نيبال بغرض تشييد تمثال نحاسي من دورين للسيد بوذا في دير شي الذي يقع بالقرب من ليه، ونالت مهاراتهم استحسانًا كبيرًا من قبل الملك الذي منحهم أرضًا كي يستقروا بها على نحو دائم، وقد اختار صناع النحاس أحد الوديان التي تقع على ضفاف نهر زانسكار الغني بالترسبات النحاسية (ولذلك فإن اسم النهر ينقسم إلى جزأين، وهما “زانج” وتعني “النحاس” باللغة التبتية و”سكار” وتعني “الوادي” وبالتالي فمعنى اسم النهر هو “وادي النحاس”)، وقد استقر الصناع في مكان سُمي “تشيلينج”، حبث “تشي” تعني “أجنبي” ولينج” تعني “مكان” وبالتالي كان معنى اسم المكان الذي استقروا فيه “أرض الأجانب”، وقد اندمج أحفاد أولئك الصناع، على مر القرون، مع المجتمع المحلي حتى اصبحوا اليوم معتنقين لعبادة السيد شيفا ولكن على الطراز البوذي، وقد قام أولئك الصناع بابتكار التماثيل والأبراج في جميع أرجاء لاداخ، إلى جانب الآلات الموسيقية لديري نوبرا وهيميس كما وردوا الأواني والأدوات النحاسية إلى كل مطبخ من مطابخ لاداخ تقريبًا. ويقوم تسيوانج، الذي تعود أصوله إلى إحدى عائلات الحرفيين صناع المعادن، باصطحاب السياح في جولة حول متحف منزله الذي يعرض الأواني التراثية والموروثة الخاصة بعائلته، حيث تقوم تلك العائلات بإنتاج مجموعة رائعة من الأواني تتمازج فيها معادن النحاس والفضة والنحاس الأصفر، وذلك بدون أي أدوات أو أجهزة حديثة وباستخدام الأدوات والتقنيات المصنوعة يدويًا منذ القرن السادس عشر، ويعرض المتحف مجموعة مختلفة من القواطع والمثاقب والمطارق والزونجات (المسامير) إلى جانب الثونجبو (المغارف) والتشانج (الأواني) والفيفور (حاويات الشعير) والفانجات (مغازل النسيج)، كما يُمكننا اكتشاف عملية مثيرة للاهتمام إذا دققنا النظر في الزومالات (مسابك المعادن)، حيث يقوم الحرفيون بصب الماء في حوض من المشمش ويغمرون الاواني فيه طوال الليل وتعمل تلك العملية على إزالة الأحماض الناتجة عن الأوساخ مما يضفي لمعانًا على المنتجات.
الفخار الطيني
يقع دير باسجو (تحصينات جومبا البوذية) على بُعد حوالي 40 كم من مدينه ليه، بالقرب من قرية ليكير، وهو المكان الذي شجع الملك جاميانغ نامغيال صناعة الفخار فيه نظرًا لسهولة توفر الطين به، ويتخذ التل الذي يعلوه هذا الدير الشكل الملفوف، وتقول الأساطير أن جومبا محروسة عن طريق ثعبانين (ناجاس) هما ناندا وتاكساكو، وهذا هو سبب تسميتها بالـ “كلو كهيل” أي “المُحاطة بالناجاس”، وقد كان لامشونج، البالغ من العمر ستين عامًا، يعمل، بمساعدة ابنه ريجزين نامغيال، على صناعة الأواني الفخارية منذ أن كان عمره 15 عامًا وهو المشارك الوحيد في هذا التقليد الذي يرجع عمره إلى 350 سنة مضت، نظرًا لمشقة هذا العمل الذي يبدأ بجمع الروث من الجبال وينتهي بصنع الاواني الفخارية.لقد شُكلت ثقافة لاداخ من خلال نقل البضائع والأفكار من جميع أنحاء البلاد المجاورة والمتصلة بالمسالك المختلفة لطريق الحرير، إلا أن بعضًا من هويتها قد طواه النسيان، على مر القرون، وكادت بعض مواقعها التراثية أن تُفقد، ويجري اليوم، بتوجيه من الحكومة وبفضل جهود السكان والعلماء والفقهاء المحليين، استعادة تاريخ هذه المنطقة وتقاليدها والحفاظ عليها من أجل أجيال المستقبل.